الجمعة

الرغبه في القراءه

تحدثت في المقال السابق عن شيء مهم، وهو أن الرغبة تُصنع صناعة على أيدي المربين والمعلمين، وبتأثير من المحيط والبيئة السائدة، ووعدت أن أتحدث عن نموذج للرغبة المصنوعة، وهو الرغبة في القراءة، وأنا الآن أفي بما وعدت به.

يقولون: أنت لا تستطيع معرفة اهتمامات الناس حين يكونون مشغولين، لكن أعطهم وقتاً حراً، أو اجعلهم في موقف ينتظرون فيه حدوث شيء، ثم تأمل في الأمور التي ينشغلون بها، وهذا صحيح، وقد رأيت أن الانتظار مدة أربع أو خمس ساعات في المطارات الدولية بين رحلة ورحلة يكشف فعلاً عن اهتمامات الناس، وقد رأيت ذلك مرات عديدة، كما رآه غيري؛ فالأوربيون ـ والغربيون عموماً تكون معهم ـ غالباً ـ كتبهم وحاسباتهم الشخصية، وبها يملؤون وقت الانتظار بين رحلة وأخرى، أما أبناء ما يُسمّى بالدول النامية فإنك ترى معظمهم حائرين في ملء الفراغ الذي أتيح إليهم؛ فمنهم من ينام على كرسيه، ومنهم من يذهب إلى مكان تناول القهوة والشاي، ومنهم من يقلِّب نظره في الجالسين والعابرين.. ولا شك أن الفارق بين هؤلاء وأولئك لم يأت من الموروث الجيني، وإنما من التربية والتنشئة والبيئة.

لو تساءلنا عن أساليب تحبيب القراءة إلى الصغار، فإن الجواب سيُغرقنا بالعشرات من التفاصيل الصغيرة، فلنتحدث إذن عن المبادرات والأساليب الأساسية، وهي أيضاً كثيرة، ولعل أهمها الآتي:

1ـ أسرة مهتمة: الخطوط العميقة في شخصية الطفل تُرسم في السنوات الست الأولى من عمره، ولهذا فإن الأسرة هي التي تتحمل العبء الأكبر في صناعة رغبات الطفل، ومنها الرغبة في القراءة. إن الأسرة هي التي ترجَّح ما أمام الطفل من خيارات، وهي التي توجِد في نفسه الميل إلى القراءة والرسم والتلوين والكتابة، كما أنها هي التي تتيح له أن يتعود الانغماس في اللهو واللعب والخروج مع الرفاق وتتبع الأمور التافهة؛ ولهذا فإن اهتمام الأسرة بتعويد أطفالها على القراءة هو شرط أولي وأساسي، ولطالما كان الاهتمام أباً لمعظم الفضائل.

2- أسرة قارئة: الأسرة القارئة ليست هي الأسرة المتعلمة، لكنها الأسرة التي يمارس أفرادها القراءة كل يوم؛ إذ إن الطفل حيثما التفت وجد أباً ممسكاً بكتاب، أو أخاً يرسم شيئاً، أو أماً تشرح لأخيه شيئاً غامضاً في أحد المقررات الدراسية. إن مشاهدات الطفل لهذه الأنشطة تجعله يوقن بأن العيش مع الكتب والورق والأقلام هو العيش الطبيعي، وقد أجرت الرابطة الأمريكية لمجالس الآباء استطلاعاً حول موضوع القراءة لدى الصغار، وقد تبين من ذلك الاستطلاع أن (82%) من الأطفال الذين لا يحبون القراءة لم يحظوا بتشجيع آبائهم وأمهاتهم. ولا ريب أن التشجيع على القراءة لا يكون بالحث ولكن بإيجاد جو، يقتدي فيه الصغار بالكبار؛ ولهذا يمكن القول: إن أطفالنا لا يمارسون نشاط القراءة؛ لأننا نحن الكبار لا نفعل ذلك!

3- المكتبة المنزلية:

حين تدخل إلى بيوت معظم الغربيين تجد الكتاب في كل ركن من أركان المنزل، ولهذا فإن الطفل يألف وجود الكتب، ويألف رؤية من يقرؤها في كل وقت. كثير من بيوتنا خالٍ من أي مكتبة، وبعضها فيه مكتبات، ولكنها أشبه بالمتاحف؛ إنها لتزيين المنزل، وليست لنفع أهله، لهذا لا تمتد إليها أي يد!

المطلوب أن تكون هناك مكتبة تغذي عقول الصغار والكبار، ويشترك جميع أفراد الأسرة في اختيارها، وهي تحتاج إلى تجديد وتغذية مستمرة.

4- ضبط استخدام وسائل التقنية

قد تبين بما لا يدع مجالاً للشك أن التلفاز والإنترنت والجوّال والألعاب الإلكترونية قد أضعفت القدرة على التركيز لدى الناشئة، وجعلت معظم اهتماماتهم قصيرة الآجال، وهذا مضادّ لكل عمليات التثقف الرصين، ومن هنا فإن على الأسرة ألاّ تسمح بدخول "الكتاب" في منافسة مع الأدوات الإلكترونية؛ لأن هزيمة الكتاب ستكون حينئذ محقَّقة، ولهذا فإن من المهم جداً ألاّ يُسمح للأطفال باستخدام "النت" والجلوس أمام التلفاز... إلاّ مدة ساعة أو ساعتين يومياً، وحينئذ سنجد أن الأطفال يتجهون إلى قراءة القصص والروايات والكتب بوصفها المخرج الوحيد من الملل والسأم، ومع الأيام يشعرون بمتعة القراءة وتتعلق قلوبهم بالكتب.

إن صغارنا سيتملكون الرغبة في القراءة حين ندرك نحن الكبار أن مسؤوليتنا تجاه تثقيفهم وتغذية عقولهم لا تقل عن مسؤوليتنا في تغذية أجسامهم؛ وعلى الله قصد السبيل.
للدكتور عبد الكريم بكار


إنتقاها لكم أخوكم أبو فارس

هناك 6 تعليقات:

  1. ابو فهد الجهني6 مايو 2011 في 11:56 م

    قد لايكون الواحد منا قد تربى في عائلة على قدر كبير من الثقافة والعلم ولكن يقبح بالشخص منا في هذا العصر الموصوف بعصر الانفجار المعلوماتي ان يعاني فقر وشح معلوماتي ويتاتى ذلك من خلال البعد عن مصادر المعلومات واهمها الكتاب قد يقول الشخص لم اربى على القراءة واشعر بالملل عند القراءة نقول اقراء الكتب الممتعة مثل القصص حتى تتعود ثم ابداء في قراءة التخصص الذي تهواه فالسيل يبدء من قطرة فالجاهل الذي لايقراء وباالاخص اذا كان المجتمع الذي يعايشة االواحد منا اصحابة متجددون ويأتون بالجديد في كل مرة يراهم فيها
    ومضة:امة اقرأ لاتقرأ

    ردحذف
  2. ابو سيف بقول ..
    العلم في الصغر كالنقش على الحجر

    ردحذف
  3. محبكم،،،،،14 مايو 2011 في 12:49 ص

    طرح جيد أشكرك عليه يا أبا فارس:
    فالشخص الذي يصنع في نفسه الرغبة في القراءة فإنه حتما سوف يقرأ بإذن الله، وإذا جاهد نفسه بأن جعل من يومه وقتا قصيرا مخصصا للقراءة، فإنه سوف ينتج ويثمر ما تمناه وهو حصول الرغبة في القراءة،
    وخذها قاعدة من شخص يرى قوة مفعول هذه القاعدة وهي: أن تخصص كل يوم ربع ساعة بعد العصر مثلا خير لك من أن تخصص أربعة أيام لإنهاء كتاب دون أن تحدد وقتا معينا.
    ولا أقول هذا نظريةً،بل أقوله مع قوة يقيني بنجاح من أخذ بهذه القاعدة...
    لأنك حتما بعد مدة من تطبيق القاعدة سوف تقرأ ولسان حالك يقول:وخير جليس في الزمان كتاب،،،
    أشكرك أيهاالفارس من قعر قلبي،،
    محبكم،،،،

    ردحذف
  4. نقل جميل أشكرك يا أبا فارس
    والشكر موصول للجميع على حسن التعليق
    نأمل الحرص على المشاركة والتفاعل وطرح الآراء والأفكار لتتلاقح فيخرج الإبداع

    ردحذف
  5. نقاط جميله التى ذكرت لو أنها طبقت في مجتمعنا الذي نعيش فيه
    ولا شك في أن القراءة هي التى تثري العقول بالمعلومات التى من نتاجها تقويم سلوكيات الفرد وتوسعت مداركه في فهم الأزمات التى يمر بها هو أو مجتمعه أو الناس من حوله
    نقل جميل يا أبا فارس ونأمل الزيادة والإستمرار في النقل لتعم الفائدة
    نشكر الجميع على تعليقاتهم التى تدل على وعيهم فلهم جميعا منا جزيل الشكر والعرفان

    ردحذف
  6. فالأوربيون ـ والغربيون عموماً تكون معهم ـ غالباً ـ كتبهم وحاسباتهم الشخصية، وبها يملؤون وقت الانتظار ، أما أبناء ما يُسمّى بالدول النامية فإنك ترى معظمهم حائرين في ملء الفراغ الذي أتيح إليهم؛ ولا شك أن الفارق بين هؤلاء وأولئك لم يأت من الموروث الجيني،

    ((( وإنما من التربية والتنشئة والبيئة))) تأمل ...

    ردحذف

شاركنا بتعليقك ...

رسائل الجوال

قالوا الوسادة تحمل رأس الغني والفقير والصغير والكبير والحارس والأمير لكن لا ينام عليها بعمق إلا مرتاح الضمير