الثلاثاء

يقبَّح الشعر إذا اشتمل على الباطل، كما يقبح كل كلام يشتمل عليه

ثم قال له أين وجدت حرمة الشعر، أو مذمته من حيث هو كلامٌ جميل، يصف شعوراً نبيلا؟ يقبَّح الشعر إذا اشتمل على الباطل، كما يقبح كل كلام يشتمل عليه، والشعر كلامٌ جميل، يصف شعوراً نبيلا، ولذا لم يترفع عنه العلماء، فالكتب مملوءةٌ بالجيد من أشعارهم، في الحب والغزل

وصف الإمامُ الذهبي في كتابه المشهور (سير أعلام النبلاء: 10/46) إكبارَ الإمام أحمد بن حـنبل لشيخه الإمام الشافعي ـ رحمهما الله ـ بأنه أجاب ابنه عبد الله حين سأله: "أي رجلٍ كان الشافعي، فإني سمعتك تكثر من الدعاء له؟" قائلاً: "يا بني كان الشافعي كالشمس للنهار، وكالعافية للبدن، فانظر هل لهذين من خلفٍ أو عنهما من عوض؟". وبلا شك نجد أن الوصفين فيهما مع الإكبار ما يمكن وصفه بالتعظيم المباح، والغزل المستساغ. وإذا ذكرنا التغزُّل يتبادر إلى الأذهان سؤالٌ مهم هو: هل يصح ويتصور الغزل من الفقهاء؟، وللجواب أنقل من كتاب (من غزل الفقهاء) للشيخ علي الطنطاوي بعض النفائس.. يذكر ـ رحمه الله ـ في المقدمة أن شيخاً من المشايخ المتزمتين، قال له بعد أن رأى مقالةً له في الحب: مالك والحب، وأنت شيخ، وأنت قاض، وليس يليق بالشيوخ والقضاة أن يتكلموا في الحب، أو يعرضوا للغزل؟.. إنما يليق ذلك بالشعراء، وقد نزه اللهُ نبيه عن الشعر، وترفّعَ العلماء عنه.. الشيخ الطنطاوي حاور ذلك المتزمت وقال له: أما قمت مرةً في السحر، فأحسست نسيم الليل الناعش، وسكونه الناطق، وجماله الفاتن؛ فشعرت بعاطفةٍ لا عهد لك بمثلها، ولا طاقة لك على وصفها؟.. ثم أخذ يعدد له أمثلةً أخرى كصفاء الليل، وأفراح الماضي، وقصص الحب، وأخبار البطولة، ومشاهد البؤس، وروائع الجمال.. وسأله عمن يصور المشاعر، ويصف اللذائذ النفسية، والآلام، والبؤس، والنعماء؟.. وأفاده أنه لن يصور ذلك اللغويون ولا الفقهاء ولا المحدثون، ولا الأطباء ولا المهندسون؛ فهم يعيشون مع الجسد والعقل، محبوسين في معقلهما، لا يسرحون في فضاء الأحلام، ولا يوغلون في أودية القلب، ولا يلجون عالم النفس.. وأكد له أن أهل القلوب هم الشعراء، وسأله متعجباً كيف يكون في الدنيا من يكره الشعر!؟ وعنى بذلك الشعر الحق، الذي يجمع سمو المعنى، وموسيقى اللفظ، لا الهذيان.. ثم قال له أين وجدت حرمة الشعر، أو مذمته من حيث هو كلامٌ جميل، يصف شعوراً نبيلا؟ إنما يقبَّح إذا اشتمل على الباطل، كما يقبح كل كلام يشتمل عليه.. ويضيف من أين عرفت أن العلماء قد ترفعوا عنه، والكتب مملوءةٌ بالجيد من أشعارهم، في الحب والغزل ووصف النساء؟.. أوما سمعت بأنه ـ صلى الله عليه وسلم ـ أصغى إلى كعب بن زهير وهو يهدر في قصيدته (بانت سعاد)؛ التي يتغزل فيها بـ (سعاد)، ووصفها بما لو ألقي عليك مثله لتورعت عن سماعه، وتصاممت عنه، وحسبت أن التقى يمنعك منه وذهبت تلوم عليه، وتنصح بالإقلاع عنه :
هيفاءُ مقبلةً عجزاءُ مدبرةً
لا يُشتكى قصرٌ منها ولا طولُ
تأثير إكبار الإمام أحمد للإمام الشافعي جعلني أتذكر قصة مشابهةً لا تقل حسناً عن سابقتها؛ وهي أنه في يوم من الأيام مرض محمد بن عبد الحكم القرشي تلميذ الشافعي وصاحبه، وقد كان قريبًا إلى قلب الشافعي كل القرب، بل كان أبوه وإخوته الثلاثة الحكم وعبد الرحمن وسعد من الملازمين له، ولما عاده الإمام الشافعي في مرضه تألم بألمه، وقال فيه:
مرض الحبيـب فعدتُـه
فمرضتُ من حذري عليه
وأتى الحبيـب يعودُنـي
فبـرئتُ من نظري إليـه
ورحم الله الناطق الرسمي باسم الحب؛ قيس بن الملوح الذي أنتج حبه الصادق لمحبوبته بيتاً خلّد قصة امتزاج المشاعر وصدقها؛ وخصوصاً في حالة المرض:
يقولونَ ليلى بالعراقِ مريضةٌ
فيا ليتني كنتُ الطَبيبَ المُداويا.
مرسله من أبو فيصل

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

شاركنا بتعليقك ...

رسائل الجوال

قالوا الوسادة تحمل رأس الغني والفقير والصغير والكبير والحارس والأمير لكن لا ينام عليها بعمق إلا مرتاح الضمير